Uncategorized

رؤية تشكلية بديعة فى “جزيرة الماعـز”  تُبـرز مقولات المخـرج !!

 

 

       “ثلاث نساء يعشن  فى استقرار فى جزيرة معزولة عن العالم دون رجل يراعهم، ولكن بعد أن يقيم معهم الصعلوك “أنجلو” صديق الزوج الذى توفى فى السجن تتطور الأوضاع”، إن هذه هى أحداث العرض المسرحى العالمى “جريمة فى جزيرة الماعز” الذى كتبه الإيطالى أوجوبتى، وترجمه إلى العربية الفنان الراحل سعد أردش، تم تقديم العرض على مسرح مكتبة الإسكندرية من إخراج الدكتور/ محمـد عبد المنعم المخرج المسرحى الشاب وأستاذ التمثيل والإخراج بقسم المسـرح جامعة الإسكندرية، وقد تناول المخرج هذا العرض برؤية إخراجية واعية تكشف عن مخرج أكاديمى مبدع ومفكر له وجهة نظر فيما يقدم؛ فالمنزل القديم المتهالك بالجزيرة المعزولة والذى تعيش فيه النساء الثلاثة وتدور بداخله جميع الأحداث حَـوَّله المخرج إلى كوخ أوعشة فقيرة ليعبر عن الهشاشة والضعف العاطفى لهؤلاء النسوة أمام الرجل المفتول القوى أنجلو.  وإن الأحداث التى تدور داخل المنزل نقلها المخرج إلى خارج المنزل وجعلها تدور فى الساحة المنبسطة أمام العشة فى الفضاء الخارجى الخالى ليعبر عن الفراغ العاطفى والجنسى لهؤلاء النسوة؛ وكان ذلك بمثابة تجسيد استعارى رمزى لمعنى الكشف والتعرية حيث كشف خصوصية هؤلاء النساء، وتعرية مايدور بداخل نفس كل واحدة منهن؛ ومن ثم كان المخرج على وعى فكرى شديد بما يفعل كعادته فى كل عروضه المسرحية وهذا مايحسب له.

           وجدير بالذكر أن المخرج رفض استخدام أى ديكور واقعى، ولم يلجأ إلى الشاسيهات الملونة، وقطع الديكور الضخمة، والطلاء بألوانه الزاهية أو المبهجة لكنه مال كثيراً إلى  الخامات الطبيعية المستلهمة من بيئة الأحداث.

 

        قام بتصميم الرؤية التشكيلية من ديكور وملابس لعرض (جريمة فى جزيرة الماعز) السينوجراف المبدع مهندس وليد السباعى ساحر الصورة المرئية فى العروض المسرحية، وهو يتميز دوماً بإتقانه الشديد ووعيه الفنى فى كل أعماله التى قدمها مع المخرج الشاب دكتور محمـد عبد المنعم؛ إذ يستطيع الفنان وليد السباعى أن يوظف خامات الديكور التى يستخدمها ودلالات الألوان وطرز الملابس وتصميماتها فى خدمة المغزى الدرامى المطلوب، كما يستطيع بفرشاته الساحرة أن يلبى طموحات المخرج ويبرز فلسفته داخل العرض. وقد تعاون السينوجراف المبدع وليد السباعى مع المخرج المبدع دكتور محمـد عبد المنعم مكونين ثنائى فنى مدهش فى أكثر من عمل مسرحى من قبل، كعروض : (عالم كورة كورة) عام 2013م، (اللوحة) عام 2019م، (لعنة كارامازوف) عام 2021م، (الحتة دى بتاعتى) عام 2022م.

         وفى عرض (جريمة فى جزيرة الماعز) فى يوليو عام 2023م استطاعت معادلات الرؤية التشكيلية السينوجرافية للمبدع وليد السباعى أن تحتضن رؤى المخرج وتحقق طموحاته الفكرية إزاء تفسير فلسفة مقولات العرض وتأويلها من منطق معاصر. لقد اعتمد الفنان وليد السباعى فى تكوين المنظر المسرحى على ديكور تجريدى رمزى مصنوع من خامات الطبيعة الخشنة كألواح الأخشاب وجزوع الشجر وزعف النخيل الذابل والخوص والحبال والتكوينات الحجرية وغيرها من الخامات المتوفرة فى هذه البيئة الطبيعية؛ ليعبر عن قسوة الأوضاع المعيشية التى تتحملها هذه النسوة فى هذا المكان ولاسيما جفاف المشاعر ونضوب العواطف وتحجرها الظاهرى بسبب عدم وجود رجل فى حياتهن. 

 

            يتكون المنظر المسرحى من موتيفات منظرية بسيطة تعبر عن الفضاء الخارجى المتسع الرحب أمام العشة، وتوحى بالجزيرة المعزولة بما ينتابها من ملامح القدم والتهالك؛ فيوظف مهندس الديكور إطاراً خشبياً مفتوحاً دون باب فى يمين المسرح تدخل منه الشخصيات إلى العشة، وهو باب مصنوع من ألواح خشب الشجر المتهالكة وبقايا جزوع الشجر وزعف النخيل؛ ليرمز إلى العشة البسيطة المتهاوية التى تسكنها النساء الثلاثة، هذا الإطار الخشبى مشدود من أعلى جانبه الأيسرالمتجه لعمق المنصة حبل غليظ مثبت فى منتصف عمق أرضية خشبة المسـرح وتنتشر عليه قطع من جلد الماعز المدبوغ؛ مما يعطى انطباع بخشونة المكان وروح الحياة البسيطة التى تعيشها النساء الثلاثة فى هذه الجزيرة. وبجوار مدخل العشة نلمح كتلة خشبية إسطوانية مصنوعة من بقايا خشب الأشجار تجلس عليها الشخصيات أحياناً لتقضى عملاً ما. وفى الجانب المقابل فى يسار المسرح يوجد برتكبل مرتفع عن الأرض 60 سم حجرى الشكل، يمتد منه رامب هابط تجاه صالة الجمهور، ويقبع فوق البرتكبل الحجرى بئر صخرى مغطى بالحجر وتنتشر عليه حزم من الحبال الليفية الممزقة الخشنه، ونرى أمام جانب الرامب المواجه للصالة محلبة أو ماتعرف بـ “المخضة” وهى مخصصة لخض لبن الماعز فى مثل هذه الأماكـن. كما تنتشر على البانوراما الخلفية شرائط أو حبال ليفية غير متساوية الطول تشغل الفراغ الأسود فى عمق المنصة وتوحى بالتمزق النفسى والعاطفى للنساء الثلاثة. 

 

            لقد أتاح الديكور بتوزيعه فوق خشبة المسرح بهذه الكيفية مساحة كافية لحركة الممثلين، بل كان الفضاء الخالى المتسع الذى وفره الديكور فوق المنصة يبتلع الممثلين عن عمد بين حين وآخر مع مؤثرات الإضاءة فى لحظات محددة؛ فكان ذلك بمثابة إشارة ذكية سينوجرافية تصور الممثلين وكأنهم كائنات شائة تحيا فى عالم غريب ممسوخ غير آدمى بما يعضد رؤية المخرج.

           أما الملابس فقد أجاد الفنان وليد السباعى فى توليف ألوانها وطرزها وفقاً لتطور مسيرة الأحداث الدرامية، فاتخذت الملابس نسقاً لونياً فى الفصل الأول يختلف عنه فى الفصل الثانى، فبينما تعانى النساء الثلاثة فى الفصل الأول من عدم وجود رجل فى حياتهم فكانت ملابسهم ذات طرز بيسطة وغير متأنقة؛ فالعمة “بيا” العانس ترتدى منديلاً فوق الرأس ومريلة المطبخ وبنطلون جينز أزرق وتبدو فى صورة غير مهندمة ومرهقة من أعمال البيت. والأم “أجاتا” ترتدى كاباً أزرق اللون فوق الرأس وقميص كروهات أحمر قاتم  واسترتش أسود مما يوحى بطبيعتها الخشنة الأقرب للرجال ورغبتها الجنسية المكبوتة التى نستدل عليها من دموية اللون الأحمر. أما الإبنة سلفيا فتضفر شعرها وتطوقة بتوكة كما ترتدى فستاناً أخصر فاتح مزين بالزهور ليوحى بطبيعتها المشرقة المزهرة التى ترمز للأمل الوحيد فى هذا المكان.

          لكن فى الفصل الثانى حين يعيش وسط النساء الثلاثة رجل، فتهتم كل أمرأة بنفسها وتظهر أنوثتها لتجتذب هذا الرجل بل تتحلى كل منهن بالمكياج؛ فنجد العمة “بيا” تخلع المنديل عن شعرها لينسدل شعر ناعم طويل على أكتافها وترتدى “بادى” روز يبرز مفاتنها فضلاً عن جيب أسود كالوش كما تتحلى بالحلقان والأساور. وتظهر الأم “أجاتا” فى فستان أنيق مجسم مفتوح الصدر والأكتاف وله وسط  وينسدل شعرها فى تسريحة جذابة ملفتة. أما الإبنة “سلفيا” فترتدى فستاناً أحمر اللون  وينسدل شعرها على ظهرها للتعبير عن نضجها الأنثوى والعاطفى.

          ولم تغفل الرؤية التشكلية للفنان وليد السباعى ملابس أنجلو فى كلا الفصلين؛ فبينما يتبدى فى الفصل الأول صعلوكاً متشرداً يتسم بالفحولة فقد ارتدى ألواناً قاتمة رمادية تميل إلى لون تراب الأرض يمثلها بنطلون جينز باهت اللون متسخ كثيراً، و”زنط” رمادى اللون بلا أكمام يبرز أكتافه وذراعيه المزينة برسومات التاتو الملفتة، ويظهر تحت الزنط تيشرت بلا أكمام أسود اللون، وإيشارب أحمر اللون ينسدل حول رقبته وهو مصنوع من خامة مرنة خفيفة، فضلاً عن سلسلة فضية عريضة حول رقبته يتزين بها وخاتم صخم فى إحدى يديه؛ وكلها ملامح توحى بفحولة هذا الوافد الغريب ومدى جرأته وبوهيميته وانتهازيته. أما فى الفصل الثانى حين استقر به العيش مع النساء الثلاث ووقعن فى حبال عشقه فقد قدمت له الأرملة “أجاتا” ثياب زوجها البروفيسور الراحل وهى ملابس متأنقة ومهندمة فخلع عن نفسه الزنط وارتدى جاكت بذلة سماوى اللون مزين بكاروهات أزرق ولبنى مما يوحى بصفاء النفس واستقرار الحال ورغد العيش؛ وذلك بعد وجد مكاناً يؤيه ونسوة تصرفن عليه وتقمن بخدمته ورعايته. 

 

          وهكذا شكلت الرؤية السينوجرافية للعرض من ديكور وملابس للمبدع وليد السباعى نقطة مضيئة  داخل العمل ساعدت على بلورة دلالات البيئة المكانية للأحداث ورمزياتها، فضلاً عن تجسيد ومساندة الحالات الدرامية المتباينة بإجادة، واستنطاق معنى الشخوص وعواطفها الوجدانية المتحولة من حالة لأخرى.   

 

            عرض (جريمة فى جزيرة الماعز) من تمثيل طلاب قسم المسرح المتميزين (فيولا فايز فى دور الأرملة “أجاتا”، أميرة على فى دور العمة “بيا”، باسنت فتحى فى دور الإبنة “سلفيا”، وائل لاشين فى دور الوافد الغريب “أنجلو” )، العرض دراماتورج وأشعار/ ياسر أبو العينين، رؤية تشكيلية/ م. وليد السباعى، إضاءة/ إبراهيم الفرن، موسيقى وألحان/ محمـد شحاتة، كوريجراف/ محمـد صلاح، إعداد موسيقى وتنفيذ/ محمود فيشر، تصميم بوسترات ودعاية / أحمد نوفل، إدارة مسرحية / محمود سعيد ومحمـد خميس طلاب قسم المسرح، مخرج مساعد/ محمـد الجوهرى وأحمـد فهمى طلاب قسم المسرح، العرض من إخراج المبدع الشاب أ.د/ محمـد عبد المنعم أستاذ التمثيل والإخراج بقسم المسـرح جامعة الإسكندرية.   

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى