
رغيف ال قمرة
ايمان العطيفى _همسات جنوبيه
– – ( إحنا شباب المراغة،إحنا شباب المراغة واللى يعادينا مين؟
-الجموع: واللى يعادينا مين؟
— واللى يعادى المراغة ،اللى يعادى المراغة شقى وعمره قصير!!!!
الجموع:شقى وعمره قصير!!!
–البت المراغية،الحلوة المراغية نسّتني بلدي
الجموع: نستني بلدي
–نستنى أمى وابويا، نستنى امى وابويا والغالى ولدي
الجموع: والغالى ولدي)
إنها ” فريحة”
ليست مطربة ،ولا متعهدة أفراح،ولكنها عنوان الفَرَح فى العائلة،”فريحة”جارتي ولا أكذب قولا إن قلت إنها توأمي ،غير انها تختلف اختلافا تاما في كل شىء،”فريحة” فائقة الجمال،الجسد البض الناعم الموسوم ببياض اللبن،والعيون الملونة المائلة للخضار،الشعر الكستنائي الفاتح،– ملبن دمياطي — كما تشبهها نساء العائلة .
قالوا :إن لكلّ منا حظا من اسمه،ولكن ” فريحة”أخذت الحظ كله لاسمها ومن اسمها .
في حين أننى لم آخذ من اسمي أي حظ،فليس لوجهي استدارة القمر،وليس لجسدي تلك التقاسيم المثيرة وهذا اللين الذي يترجرج تحت الثوب ،ولا انتمى الى شمس النهار ، ولا يتوقني الليل ولا عشاق السمر .
أنا فتاة عادية جدا ، أنتمي إلى الأنوثة بأقل القليل من السمات.
أما فريحة فكانت أمى تقول إنها فتاة المواسم .
حيث كانت بشرتها في الصيف تميل للاحمرار متأثرة بحرارة الجنوب وفي الشتاء تميل إلى بياض الثلج ؛ وحين يتجلى الربيع على الأرض تكون فريحة أول علاماته حيث يكتسي وجهها بلون الفل ؛ أما عند الخريف فيبدو الشحوب على وجهها ؛ غير أنه يزيد ملامحها إثارة وجمالا .
طقس الفرح عندنا لا يكتمل إلا بوجود ” فريحة ” ، بعد صلاة العصر يتم تجهيز مقعد الحريم وهو أشبه بالحرملك فى لغة الأتراك ، وهو مكان لا يصل إليه غريب أبدا ، حيث يوجد في أقصى حدود المنزل وهو خاص بنسوة العائلة ، به ركن خاص بتحهيز الطعام ؛ كما
يتسع هذا الركن لأشياء كثيرة ؛ به متسع للغسيل ، وأكثر من مصطبه تحدد المكان من كل الجهات وهى غالبا صنعت للعجائز اللواتى لا يشاركن إلا بإصدار الأوامر والعتاب والتقريع .
الآن كل شيء معد ولا يسعنا إلا الصبر حتى تأتى “فريحة”وقتما تشاء،الكل يسأل عنها ويستعجلها، وغالبا ما نرسل لها طفلا يناديها ؛ وفي الحقيقة نحن لا نبحث عنها لشدة حبنا لها، وإنما نستعجلها شوقا إلى الرقص،فعندما تمر فريحة بين الجموع ،لتتربع على الكنبة ،كاشفة عن بعض ساقيها الأشبه بالرخام النقي لتحشر الطبلة مابين الفخذ والصدر،وتأخذ نفسا عميقا ،وتعلو زغرودتها الرنانة ،حتى تسمع إحدى النساء الواقفات تصرخ بشدة
—اسكندراني يا فريحة
فتطرقع فريحة الزغرودة الاسكندرانية الطويلة وكأنها ستسمع في كرموز .
وما أن تنتهي منها،يرتفع صوت مختلف قناوي يا فريحة ،فيرتج المكان فرحا بالزغرودة القنائية المجلجلة حتى ساحة سيدي عبد الرحيم فترد عليها في الحال نساء العائلة زغرودة بزغرودة حتى تشير إليهن ليصمتن، لتبدأ بالنقر على طبلتها بيدها اليمنى ثلاث دقات متتاليات لتنزل بعدها باليد اليسرى مشاركة للسعادة،وما أن تدق فريحة طبلتها وتبدأ بأغنيتها الشهيرة (احنا شباب المراغة)
وما أن يعلو صوتها بالغناء وقرع الطبلة ألا ويبدأ مهرجان الرقص ، وكل يعمل على شاكلته وكأني بالقاعدين يرقصون في أماكنهم لفرط النشوة التي يفرضها صوت فريحة في المكان .
انا وفريحة مواليد شهر واحد،لسنة واحدة،غير أني تزوجت ابن عمي بسن صغير حيث لم أكن تجاوزت الخماسة عشر عاما من عمرى، غير أن فريحة أتمت تعليمها العالي ،فأصبحت أنا أما لثلاثة من الرجال وأصبحت فريحة مدرسة فرنساوى ؛ ورغم هذا التباين الذي صنعته الظروف غير أني وفريحة لم نزل على توأمة أرواحنا أنا وهي ؛ ورغم الاختلاف الكبير الذي لم يكن في الجمال والتعليم فحسب ولكن حتى فى اللبس والأناقة ، فأنا لا أرتدي غير الأسود ، بينما هى ترتدي كل الألوان ؛ أنا أجرجر خلفي بقايا عبائتي ؛ وهي أطول عباءة عندها أو فستان لا يتجاوز حد الركبة بأكثر من عشرة سم .
اعتادت أم فريحة أن تعطيني عشرة أرغفة من الخبز الشمسي عندما تخبزه في دارها وكانت تحرص على أن تعطيني إياه مجرد أن تخرجه من الفرن ساخنا جدا لأنها تعرف عشق أمي لدسّ قطعة من الزبد وقليل من السكر فيه قبل أن يبرد ؛
حتى بعد زواجي اعتادت أيضا أن ترسل لي فى منزلي كرتونة العيد قبل العيد بيوم كامل ،تأتينا بها ميرنا حفيدتها،وتخبرني بسلام الجدة وتؤكد لي أن الكرتونة لا تصلني في هذا الوقت صدفة.ولكن لتثبت لي أننى أول بناتها، فاليوم لي وغدا لمن انجبتهن بطنها.
كنت دائما محط اهتماها،لم أشكُ لأمي حالى كما شكوته لأم فريحة،ولم يقف من أجلي أحد ويحارب لرد حقوقي المنتزعة غصبا كأم فريحة،ولم يُثنِ أحد علي وعلى أولادي ويشكر تربيتهم وتديّنهم كأم فريحة .
لذلك عندما توفاها الله يقينا فقدت أمي ولكن ظل الحب موصولا بفريحة حيث لم تعد صديقتي الأقرب فقط بل كنت أشتم فيها رائحة أمي ؛ وقد كانت تأتيني قبل العيد أو أية مناسبة تخصني لتساعدني فى غسل السجاد والستائر، وتنظيف المنزل ؛ وكذلك كنت أؤدي معها نفس الدور ؛ ربما كان ارتباطي بفريحة الذي يزداد يوما بعد يوم مرجعه ذلك العشق لذكرياتي التي لم أكتمل داخلها وأنضج بشكل طبيعي حيث تحملت المسئولية في عمر الصبا ؛ وكنت كثيرا أطلب من فريحة أن تغني لي ( احنا شباب المراغة .. واللي يعادينا مين ) وكأني بهذا الأغنية أعلن أنني وفريحة لا يستطيع أحد أن يفرق بيننا مهما كانت عداوته .
لازالت فريحة يوم الأحد من كل أسبوع ترسل لي عشرة أرغفة من العيش الشمسى ،وتأكد لى زوجة أخيها أنها تراقبهم،وتصر على أن تتم استدارة الرغيف كاستدارة القمر يوم تمام البدر.
علما بأن فريحة لا تأكل الرغيف كامل الاستدارة
فهى من باب البركة من وجهة نظرها تصنعة رغيفا بأربعة قرون ؛ أما أنا فما زلت يوم عيد الأضحى أقتسم معها الثلث الذي يخص أهل بيتي من الأضحية . كبرت ميرنا ابنة فريحة وصارت فتاة مكتملة شبيهة بأمها ؛ وكبر أولادي ولم يعد أحد منهم يعرف أن أم فريحة كانت أمي وصار خبز الأحد نادرا . اليوم تعجبت كثيرا من نفسي إلى حد الخجل حينما ضحك أبنائي على سؤالي من منكم يغني لي ( احنا شباب المراغة … واللي يعادينا مين )
#ايمان العطيفى _همسات جنوبيه